فصل: سنة سبع عشرة وخمسمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة ست عشرة وخمسمائة:

.ذكر طاعة الملك طغرل لأخيه محمود:

وفي المحرم من هذه السنة أطاع الملك طغرل أخاه السلطان محموداً، وكان قد خرج عن طاعته، كما ذكرناه، وقصد أذربيجان في السنة الخالية ليتغلب عليها، وكان أتابكه كنتغدي يحسن له ذلك، ويقويه عليه، فاتفق أنه مرض، وتوفي في شوال سنة خمس عشرة.
وكان الأمير آقسنقر الأحمديلي، صاحب مراغة، عند السلطان محمود ببغداد، فاستأذنه في المضي إلى إقطاعه، فأذن له، فلما سار عن السلطان ظن أنه يقوم مقام كنتغدي من الملك طغرل، فسار إليه، واجتمع به، وأشار عليه بالمكاشفة لأخيه السلطان محمود، وقال له: إذا وصلت إلى مراغة اتصل كب عشرة آلاف فارس وراجل. فسار معه، فلما وصلوا إلى أردبيل أغلقت أبوابها دونهم، فساروا عنها إلى قريب تبريز، فأتاهم الخبر أن السلطان محموداً سير الأمير جيوش بك إلى أذربيجان، وأقطعه البلاد، وأنه نزل مراغة في عسكر كثيف من عند السلطان.
فلما تيقنوا ذلك عدلوا إلى خونج، وانتفض عليهم ما كانوا فيه، وراسلوا الأمير شيركير الذي كان أتابك طغرل، أيام أبيه، يدعونه إلى إنجادهم، وقد كان كنتغدي قبض عليه بعد موت السلطان محمد على ما ذكرناه، ثم أطلقه السلطان سنجر، فعاد إلى إقطاعه، أبهر، وزنجان، وكاتبوه فأجابهم، واتصل بهم، وسار معهم إلى أبهر، فلم يتم لهم ما أرادوا، فراسلوا السلطان بالطاعة، فأجابهم إلى ذلك، فاستقرت القاعدة أول هذه السنة، وتمت.

.ذكر حال دبيس بن صدقة وما كان منه:

قد ذكرنا سنة أربع عشرة حال دبيس بن صدقة، وصلحه على يد يرنقش الزكوي، ومقامه بالحلة، وعود يرنقش إلى السلطان ومعه منصور بن صدقة، أخو دبيس، وولده، رهينة، فلما علم الخليفة بذلك لم يرض به، وراسل السلطان محموداً في إبعاد دبيس عن العراق إلى بعض النواحي.
وتردد الخطاب في ذلك، وعزم السلطان على المسير إلى همذان، فأعاد الخليفة الشكوى من دبيس، وذكر أنه يطالب الناس بحقوده، منها قتل أبيه، وأشار أن يحضر السلطان آقسنقر البرسقي من الموصل، ويوليه شحنكية بغداد والعراق، ويجعله في وجه دبيس، ففعل السلطان ذلك، وأحضر البرسقي، فلما وصل إليه زوجه والدة الملك مسعود، وجعله شحنة بغداد، وأمره بقتال دبيس إن تعرض للبلاد.
وسار السلطان عن بغداد في صفر من هذه السنة، وكان مقامه ببغداد سنة وسبعة أشهر وخمسة عشر يوماً، فلما فارق بغداد والعراق تظاهر دبيس بأمور تأثر بها المسترشد بالله، وتقدم إلى البرسقي بالمسير إليه، وإزعاجه عن الحلة، فأرسل البرسقي إلى الموصل، وأحضر عساكره، وسار إلى الحلة، وأقبل دبيس نحوه، فالتقوا عند نهر بشير، شرقي الفرات، واقتتلوا، فانهزم عسكر البرسقي.
وكان سبب الهزيمة أنه رأى في مسيرته خللاً، وبها الأمراء البكجية، فأمر بإلقاء خيمته، وأن تنصب عند الميسرة، ليقوي قلوب من بها، فلما رأوا الخيمة وقد سقطت ظنوها عن هزيمة، فانهزموا، وتبعهم الناس والبرسقي.
وقيل: بل أعطي رقعة فيها: إن جماعة من الأمراء، منهم إسماعيل البكجي، يريدون الفتك به، فانهزم،، وتبعه العسكر، ودخل بغداد ثاني ربيع الآخر، وكان في جملة العسكر نصر بن النفيس بن مهذب الدولة أحمد بن أبي الجبر، وكان ناظراً بالبطيحة لريحان محكويه، خادم السلطان، لأنها كانت من جملة إقطاعه، وحضر أيضاً المظفر بن حماد بن أبي الجبر، وبينهما عداوة شديدة، فالتقيا عند الانهزام بساباط نهر ملك، فقتله المظفر ومضى إلى واسط وسار منها إلى البطيحة، وتغلب عليها وكاتب دبيساً وأطاعه.
وأما دبيس فإنه لم يعرض لنهر ملك، ولا غيره، وأرسل إلى الخليفة أنه على الطاعة، ولولا ذلك لأخذ البرسقي وجميع من معه، وسأل أن يخرج الناظر إلى القرى التي لخاص الخليفة لقبض دخلها.
وكانت الوقعة في حزيران، وحمى البلد، فأحمد الخليفة فعله، وترددت الرسل بينهما، فاستقرت القاعدة أن يقبض المسترشد بالله على وزيره جلال الدين أبي علي بن صدقة ليعود إلى الطاعة، فقبض على الوزير، ونهبت داره ودور أصحابه والمنتمين إليه، وهرب ابن أخيه جلال الدين أبو الرضا إلى الموصل.
ولما سمع السلطان خبر الوقعة قبض على منصور بن صدقة، أخي دبيس، وولده ورفعهما إلى قلعة برحين وهي تجاور كرج.
ثم إن دبيساً أمر جماعة من أصحابه بالمسير إلى أقطاعهم بواسط، فساروا إليها، فمنعهم أتراك واسط، فجهز دبيس إليهم عسكراً مقدمهم مهلهل ابن أبي العسكر، وأرسل إلى المظفر بن أبي الجبر بالبطيحة ليتفق مع مهلهل ويساعده على قتال الواسطيين، فاتفقا على أن تكون الوقعة تاسع رجب، وأرسل الواسطيون إلى البرسقي يطلبون منه المدد، فأمدهم بجيش من عنده، وعجل مهلهل في عسكره دبيس، ولم ينتظر المظفر ظناً منه أنه بمفرده ينال منهم ما أراد، وينفرد بالفتح، فالتقى هو والواسطيون، ثامن رجب، فانهزم مهلهل وعسكره، وظفر الواسطيون، وأخذ مهلهل أسيراً وجماعة من أعيان العسكر، وقتل ما يزيد على ألف قتيل، ولم يقتل من الواسطيين غير رجل واحد.
وأما المظفر بن أبي الجبر فإنه أصعد من البطيحة ونهب وأفسد، وجرى من أصحابه القبيح، فلما قارب واسطاً سمع بالهزيمة، فعاد منحدراً.
وكان في جملة ما أخذ العسكر الواسطي من مهلهل تذكرة بخط دبيس يأمره فيها بقبض المظفر بن أبي الجبر ومطالبته بأموال كثيرة أخذها من البطيحة، فأرسلوا الخط إلى المظفر، وقالوا: هذا خط الذي تختاره، وقد أسخطت الله تعالى والخلق كلهم لأجله، فمال إليهم وصار معهم، فلما جرى على أصحاب دبيس من الواسطيين ما ذكرناه شمر عن ساعده في الشر، وبلغه أن السلطان كحل أخاه، فجز شعره، ولبس السواد، ونهب البلاد، وأخذ كل ما للخليفة بنهر الملك، فأجلى الناس إلى بغداد.
وسار عسكر واسط إلى النعمانية، فأجلوا عنها عسكر دبيس واستولوا عليها، وجرى بينهم هناك وقعة كان الظفر فيها للواسطيين، وتقدم الخليفة إلى البرسقي بالتبريز إلى حرب دبيس، فبرز في رمضان، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر قتل السميرمي:

وفي هذه السنة قتل الوزير الكمال أبو طالب السميرمي، وزير السلطان محمود، سلخ صفر، وكان قد برز مع السلطان ليسير إلى همذان، فدخل إلى الحمام، وخرج بين يديه الرجالة والخيالة، وهو في موكب عظيم، فاجتاز بسوق المدرسة التي بناها خمارتكين التتشي، واجتاز في منفذ ضيق فيه حظائر الشوك، فتقدم أصحابه لضيق الموضع، فوثب عليه باطني وضربه بسكين، فوقعت في البغلة، وهرب إلى دجلة، وتبعه الغلمان، فخلا الموضع، فظهر رجل آخر فضربه بسكين في خاصرته، وجذبه عن البغلة إلى الأرض، وضربه عدة ضربات.
وعاد أصحاب الوزير، فحمل عليهم رجلان باطنيان، فانهزموا منهما، ثم عادوا وقد ذبح الوزير مثل الشاة، فحمل قتيلاً وبه نيف وثلاثون جراحة، وقتل قاتلوه.
ولما كان في الحمام كان المنجمون يأخذون له الطالع ليخرج، فقالوا: هذا وقت جيد، وإن تأخرت يفت طالع السعد، فأسرج وركب، وأراد أن يأكل طعاماً، فمنعوه لأجل الطالع، فقتل ولم ينفعه قولهم.
وكانت وزارته ثلاث سنين وعشرة أشهر، وانتهب ماله، وأخذ السلطان خزانته، ووزر بعده شمس الملك بن نظام الملك، وكانت زوجة السميرمي قد خرجت هذا اليوم في موكب كبير، معها نحو مائة جارية، وجمع من الخدم، والجميع بمراكب الذهب، فلما سمعن بقتله عدن حافيات حاسرات، وقد تبدلن بالعز هواناً، وبالمسرة أحزاناً. فسبحان من لا يزول ملكه.
وكان السميرمي ظالماً، كثير المصادرة للناس، سيء السيرة، فلما قتل أطلق السلطان ما كان جدده من المكوس، وما وضعه على التجار والباعة.

.ذكر القبض على ابن صدقة وزير الخليفة ونيابة علي بن طراد:

في جمادى الأولى قبض الخليفة على وزيره جلال الدين بن صدقة، وقد تقدم ذكره قبل، وأقيم نقيب النقباء شرف الدين علي بن طراد الزينبي في نيابة الوزارة، فأرسل السلطان إلى المسترشد بالله في معنى وزارة نظام الملك أبي نصر أحمد بن نظام الملك، وكان أخو شمس الملك عثمان بن نظام الملك وزير السلطان محمود، فأجيب إلى ذلك، واستوزر في شعبان.
وكان قد وزر للسلطان محمد سنة خمسمائة، ثم عزل، ولزم داراً استجدها ببغداد إلى الآن. فلما خلع على نظام الملك، وجلس في الديوان، طلب أن يخرج ابن صدقة عن بغداد، فلما علم ابن صدقة ذلك طلب من الخليفة أن يسير إلى حديثة عانة ليكون عند الأمير سليمان بن مهارش، فأجيب إلى ما طلب.
وسار إلى الحديثة، فخرج عليه في الطريق إنسان من مفسدي التركمان يقال له يونس الحرامي، فأسره ونهب أصحابه، فخاف الوزير أن يعلم دبيس فأرسل إلى يونس وبذل له مالاً يأخذه منه للعداوة التي بينهما، فقرر أمره مع يونس على ألف دينار يعجل منها ثلاثمائة، ويؤخر الباقي إلى أن يرسله من الحديثة.
وراسل عامل بلد الفرات في تخليصه، وإنفاذ من يضمن الباقي الذي عليه، فأعمل العامل الحيلة في ذلك، فأحضر إنساناً فلاحاً وألبسه ثياباً فاخرة وطيلساناً، وأركبه وسير معه غلماناً، وأمره أن يمضي إلى يونس ويدعي أنه قاضي بلد الفرات، ويضمن الوزير منه ما بقي من المال، فسار السوادي إلى يونس، فلما حضر عند الوزير ويونس احترماه، وضمن السوادي الوزير منه، وقال له: أقيم عندك إلى أن يصل المال مع صاحب لك تنفذه مع الوزير، فاعتقد يونس صدق ذلك وأطلق الوزير ومعه جماعة من أصحابه، فلما وصل الحديثة قبض على من معه منهم، فأطلق يونس ذلك السوادي، والمال الذي أخذه، حتى أطلق الوزير أصحابه، وعلم الحيلة التي تمت عليه.
ولما سار الوزير من عند يونس لقي إنساناً أنكره، فأخذه، فرأى معه كتاباً من دبيس إلى يونس يبذل ستة آلاف دينار ليسلم الوزير إليه، وكان خلاصه من أعجب الأشياء.

.ذكر قتل جيوش بك:

في هذه السنة قتل الأمير جيوش بك الذي كان صاحب الموصل، وقد ذكرنا خروجه على السلطان محمود، وعوده إلى خدمته، فلما رضي عنه أقطعه أذربيجان وجعله مقدم عسكره، فجرى بينه وبين جماعة من الأمراء منافرة ومنازعات، فأغروا به السلطان، فقتله في رمضان على باب تبريز.
وكان تركياً من مماليك السلطان محمد، عادلاً، حسن السيرة، ولما ولي الموصل والجزيرة كان الأكراد بتلك الأعمال قد انتشروا، وكثر فسادهم، وكثرت قلاعهم، والناس معهم في ضيق، والطريق خائفة، فقصدهم، وحصر قلاعهم، وفتح كثيراً منها ببلد الهكارية، وبلد الزوزان، وبلد البشنوية، وخافه الأكراد، وتولى قصدهم بنفسه، فهربوا منه في الجبال والشعاب والمضايق، وأمنت الطرق، وانتشر الناس واطمأنوا وبقي الأكراد لا يجسرون أن يحملوا السلاح لهيبته.

.ذكر وفاة إيلغازي وأحوال حلب بعده:

في هذه السنة، في شهر رمضان، توفي إيلغازي بن أرتق بميافارقين، وملك ابنه حسام الدين تمرتاش قلعة ماردين، وملك ابنه سليمان ميافارقين، وكان بحلب ابن أخيه بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق، فبقي بها إلى أن أخذها ابن عمه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة أقطع السلطان محمود الأمير آقسنقر البرسقي مدينة واسط وأعمالها، مضافاً إلى ولاية الموصل وغيرها مما بيده، وشحنكية العراق، فلما أقطعها البرسقي سير إليها عماد الدين زنكي بن آقسنقر الذي كان والده صاحب حلب، وأمره بحمايتها، فسار إليها في شعبان ووليها، وقد ذكرنا أخبار زنكي في كتاب الباهر في ذكر ملكه وملك أولاده الذين هم ملوكنا الآن، فينظر منه.
وفيها ظهر معدن نحاس بديار بكر قريباً من قلعة ذي القرنين.
وفيها زاد الفرات زيادة عظيمة لم يعهد مثلها، فدخل الماء إلى ربض قلعة جعبر، وكان الفرات، حينئذ بالقرب منها، فغرق أكثر دوره ومساكنه، وحمل فرساً من الربض وألقاه من فوق السور إلى الفرات.
وفيها بنيت مدرسة بحلب لأصحاب الشافعي.
وفيها توفيت ابنة السلطان سنجر زوج السلطان محمود.
وفيها، في شعبان، قدم إلى بغداد البرهان أبو الحسن علي بن الحسين الغزنوي وعقد مجلس الوعظ في جميع المواضع، وورد بعده أبو القاسم علي بن يعلى العلوي، ونزل رباط شيخ الشيوخ، فوعظ في جامع القصر، والتاجية، ورباط سعادة، وصار له قبول عند الحنابلة، وحصل له مال كثير لأنه أظهر موافقتهم.
وورد بعده أبو الفتوح الأسفراييني، ونزل برباط شيخ الشيوخ أيضاً، ووعظ في هذه المواضع، وفي النظامية، وأظهر مذهب الأشعري، فصار له قبول كثير عند الشافعية، وحضر مجلسه الخليفة المسترشد بالله، وسلم إليه رباط الأرجونية، والدة المقتدي بالله، بدرب زاخي.
وفيها توفي عبد الله بن أحمد بن عمر أبو محمد السمرقندي، أخو أبي القاسم بن السمرقندي، ومولده بدمشق سنة أربع وأربعين وأربعمائة، ونشأ ببغداد، وسمع الصريفني وابن النقور وغيرهما، وسافر الكثير، وكان حافظاً للحديث عالماً به.
وفي ذي الحجة توفي عبد القادر بن محمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف أبو طالب، ومولده سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وسمع البرمكي، والجوهري، والعشاري، وكان ثقة، حافظاً للحديث. ثم دخلت:

.سنة سبع عشرة وخمسمائة:

.ذكر مسير المسترشد بالله لحرب دبيس:

في هذه السنة كانت الحرب بين الخليفة المسترشد بالله، وبين دبيس بن صدقة.
وكان سبب ذلك: أن دبيساً أطلق عفيفاً خادم الخليفة، وكان مأسوراً عنده، وحمله رسالة فيها تهديد للخليفة بإرسال البرسقي إلى قتاله، وتقويته بالمال، وأن السلطان كحل أخاه، وبالغ في الوعيد، ولبس السواد، وجز شعره، وحلف لينهبن بغداد، ويخربها، فاغتاظ الخليفة لهذه الرسالة، وغضب، وتقدم إلى البرسقي بالتبريز إلى حرب دبيس، فبرز في رمضان سنة ست عشرة.
وتجهز الخليفة، وبرز من بغداد، واستدعى العساكر، فأتاه سليمان بن مهارش، صاحب الحديثة، في عقيل، وأتاه قرواش بن مسلم، وغيرهما، وأرسل دبيس إلى نهر ملك فنهب، وعمل أصحابه كل عظيم من الفساد، فوصل أهله إلى بغداد، فأمر الخليفة فنودي ببغداد لا يتخلف من الأجناد أحد، ومن أحب الجندية من العامة فليحضر، فجاء خلق كثير، ففرق فيهم الأموال والسلاح.
فلما علم دبيس الحال كتب إلى الخليفة يستعطفه ويسأله الرضاء عنه، فلم يجب إلى ذلك، وأخرجت خيام الخليفة في العشرين من ذي الحجة من سنة ست عشرة، فنادى أهل بغداد: النفير النفير، الغزاة الغزاة! وكثر الضجيج من الناس، وخرج منهم عالم كثير لا يحصون كثرة، وبرز الخليفة رابع عشر ذي الحجة، وعبر دجلة وعليه قباء أسود، وعمامة سوداء، وطرحة، وعلى كتفه البردة، وفي يده القضيب، وفي وسطه منطقة حديد صيني، ونزل الخيام ومعه وزير نظام الدين أحمد بن نظام الملك، ونقيب الطالبيين، ونقيب النقباء علي بن طراد، وشيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل وغيرهم من الأعيان.
وكان البرسقي قد نزل بقرية جهار طاق، ومعه عسكره، فلما بلغهم خروج الخليفة عن بغداد عادوا إلى خدمته، فلما رأوا الشمسة ترجلوا بأجمعهم، وقبلوا الأرض بالبعد منه.
ودخلت هذه السنة، فنزل الخليفة، مستهل المحرم، بالحديثة، بنهر الملك، واستدعى البرسقي والأمراء، واستحلفهم على المناصحة في الحرب، ثم ساروا إلى النيل، ونزلوا بالمباركة، وعبأ البرسقي أصحابه، ووقف الخليفة من وراء الجميع في خاصته، وجعل دبيس أصحابه صفاً واحداً، ميمنة، وميسرة، وقلباً، وجعل الرجالة بين أيدي الخيالة بالسلاح، وكان قد وعد أصحابه بنهب بغداد، وسبي النساء، فلما تراءت الفئتان بادر أصحاب دبيس، وبين أيديهم الإماء يضربن بالدفوف، والمخانيث بالملاهي، ولم ير في عسكر الخليفة غير قاريء، ومسبح، وداع، فقامت الحرب على ساق.
وكان مع أعلام الخليفة الأمير كرباوي بن خراسان، وفي الساقة سليمان ابن مهارش، وفي ميمنة عسكر البرسقي الأمير أبو بكر بن إلياس مع الأمراء البكجية، فحمل عنتر بن أبي العسكر في طائفة من عسكر دبيس على ميمنة البرسقي، فتراجعت على أعقابها، وقتل ابن أخ للأمير أبي بكر البكجي، وعاد عنتر وحمل حملة ثانية على هذه الميمنة، فكان حالها في الرجوع على أعقابها كحالها الأول، فلما رأى عسكر واسط ذلك، ومقدمهم الشهيد عماد الدين زنكي بن آقسنقر، حلم وهم معه على عنتر ومن معه، وأتوهم من ظهورهم فبقي عنتر في الوسط، وعماد الدين وعسكر واسط من ورائه، والأمراء البكجية بين يديه، فأسر عنتر، وأسر معه بريك بن زائدة وجميع من معهما ولم يفلت أحد.
وكان البرسقي واقفاً على نشز من الأرض، وكان الأمير آق بوري في الكمين في خمسمائة فارس، فلما اختلط الناس خرج الكمين على عسكر دبيس، فانهزموا جميعهم وألقوا نفوسهم في الماء، فغرق كثير منهم، وقتل كثير.
ولما رأى الخليفة اشتداد الحرب جرد سيفه وكبر وتقدم إلى الحرب، فلما انهزم عسكر دبيس وحملت الأسرى إلى بين يديه أمر الخليفة أن تضرب أعناقهم صبراً.
وكان عسكر دبيس عشرة آلاف فارس، واثني عشر ألف راجل، وعسكر البرسقي ثمانية آلاف فارس، وخمسة آلاف راجل، ولم يقتل من أصحاب الخليفة غير عشرين فارساً، وحصل نساء دبيس وسراريه تحت الأسر سوى بنت إيلغازي، وبنت عميد الدولة بن جهير، فإنه كان تركهما في المشهد.
وعاد الخليفة إلى بغداد، فدخلها يوم عاشوراء من هذه السنة. ولما عاد الخليفة إلى بغداد ثار العامة بها، ونهبوا مشهد باب التبن، وقلعوا أبوابه، فأنكر الخليفة ذلك، وأمر نظر أمير الحاج بالركوب إلى المشهد، وتأديب من فعل ذلك، وأخذ ما نهب، وفعل وأعاد البعض وخفي الباقي عليه.
وأما دبيس بن صدقة فإنه لما انهزم نجا بفرسه وسلاحه، وأدركته الخيل، ففاتها وعبر الفرات، فرأته امرأة عجوز وقد عبر، فقالت له: دبير جئت؟ فقال: دبير من لم يجيء. واختفى خبره بعد ذلك، وأرجف عليه بالقتل، ثم ظهر أمره أنه قصد غزية من عرب نجد، فطلب منهم أن يحالفوه، فامتنعوا عليه وقالوا: إنا نسخط الخليفة والسلطان، فرحل إلى المنتفق، واتفق معهم على قصد البصرة وأخذها، فساروا إليها ودخلوها، ونهبوا أهلها، وقتل الأمير سخت كمان مقدم عسكرها، وأجلي أهلها.
فأرسل الخليفة إلى البرسقي يعاتبه على إهماله أمر دبيس، حتى تم له من أمر البصرة ما أخربها، فتجهز البرسقي للانحدار إليه، فسمع دبيس ذلك، ففارق البصرة، وسار على البر إلى قلعة جعبر، والتحق بالفرنج، وحضر معهم حصار حلب، وأطمعهم في أخذها، فلم يظفروا بها، فعادوا عنها، ثم فارقهم والتحق بالملك طغرل ابن السلطان محمد، وأقام معه، وحسن له قصد العراق، وسنذكره سنة تسع وعشرين، إن شاء الله تعالى.

.ذكر ملك الفرنج حصن الأثارب:

في هذه السنة، في صفر، ملك الفرنج حصن الأثارب، من أعمال حلب.
وسبب ذلك: أنهم كانوا قد أكثروا قصد حلب وأعمالها بالإغارة، والتخريب، والتحريق، وكان بحلب حينئذ بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق، وهو صاحبها، ولم يكن له بالفرنج قوة، وخافهم، فهادنهم على أن يسلم الأثارب ويكفوا عن بلاده، فأجابوه إلى ذلك، وتسلموا الحصن، وتمت الهدنة بنيهم، واستقام أمر الرعية بأعمال حلب، وجلبت إليهم الأقوات وغيرها، ولم تزل الأثارب بأيدي الفرنج إلى أن ملكها أتابك زنكي بن آقسنقر، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر ملك بلك حران وحلب:

في هذه السنة، في ربيع الأول، ملك بلك بن بهرام مدينة حران، وكان قد حصرها، فلما ملكها سار منها إلى مدينة حلب.
وسبب مسيره إليها: أنه بلغه أن صاحبها بدر الدولة قد سلم قلعة الأثارب إلى الفرنج، فعظم ذلك عليه، وعلم عجزه عن حفظ بلاده، فقوي طمعه في ملكها، فسار إليها، ونازلها في ربيع الأول، وضايقها، ومنع الميرة عنها، وأحرق زروعها، فسلم إليه ابن عمه البلد والقلعة بالأمان، غرة جمادى الأولى من السنة، وتزوج ابنة الملك رضوان، وبقي مالكاً لها إلى أن قتل على ما نذكره.

.ذكر الحرب بين الفرنج والمسلمين بإفريقية:

قد ذكرنا أن الأمير علي بن يحيى، صاحب إفريقية، لما استوحش من رجار صاحب صقلية، جدد الأسطول الذي له، وكثر عَدده وعُدده، وكاتب أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين بمراكش بالاجتماع معه على قصد جزيرة صقلية، فلما علم رجار ذلك كف عن بعض ما كان يفعله.
فاتفق أن علياً مات سنة خمس عشرة، وولي ابنه الحسن، وقد ذكرناه، فلما دخلت سنة ست عشرة وخمسمائة سير أمير المسلمين أسطولاً، ففتحوا نقوطرة بساحل بلاد قلورية، فلم يشك رجار أن علياً كان سبب ذلك، فجد في تعمير الشواني والمراكب، وحشد فأكثر، ومنع من السفر إلى إفريقية وغيرها من بلاد الغرب، فاجتمع له من ذلك ما لم يعهد مثله، قيل: كان ثلاثمائة قطعة، فلما انقطعت الطريق عن إفريقية توقع الأمير الحسن بن علي خروج العدو إلى المهدية، فأمر باتخاذ العدد، وتجديد الأسوار، وجمع المقاتلة، فأتاه من أهل البلاد ومن العرب جمع كثير.
فلما كان جمادى الآخرة سنة سبع عشرة سار الأسطول الفرنجي في ثلاثمائة قطعة، فيها ألف فارس وفرس واحد، إلا أنهم لما ساروا من مرسى علي فرقتهم الريح، وغرق منهم مراكب كثيرة، ونازل من سلم منهم جزيرة قوصرة ففتحوها، وقتلوا من بها، وسبوا وغنموا، وساروا عنها، فوصلوا إلى إفريقية، ونازلوا الحصن المعروف بالديماس أواخر جمادى الأولى، فقاتلهم طائفة من العرب كانوا هناك، والديماس حصن منيع، في وسطه حصن آخر، وهو مشرف على البحر.
وسير الحسن من عنده من الجموع إلى الفرنج، وأقام هو بالمهدية في جمع آخر يحفظها، وأخذ الفرنج حصن الديماس، وجنود المسلمين محيطة بهم، فلما كان بعد ليال اشتد القتال على الحصن الداخل، فلما كان الليل صاح المسلمون صيحة عظيمة ارتجت لها الأرض، وكبروا، فوقع الرعب في قلوب الفرنج، فلم يشكوا أن المسلمين يهجمون عليهم، فبادروا إلى شوانيهم، وقتلوا بأيديهم كثيراً من خيولهم، وغنم المسلمون منها أربعمائة فرس، ولم يسلم معهم غير فرس واحد، وغنم المسلمون جميع ما تخلف عن الفرنج، وقتلوا كل من عجز عن الطلوع إلى المراكب.
فلما صعد الفرنج إلى مراكبهم أقاموا بها ثمانية أيام لا يقدرون على النزول إلى الأرض، فلما أيسوا من خلاص أصحابهم الذين في الديماس ساروا والمسلمون يكبرون عليهم ويصيحون بهم، وأقامت عساكر المسلمين على حصن الديماس في أمير داذ لا يحصون كثرة، فحصروه، فلم يمكنهم فتحه لحصانته وقوته، فلما عدم الماء على من به من الفرنج، وضجروا من مواصلة القتال ليلاً ونهاراً، فتحوا باب الحصن وخرجوا، فقتلوا عن آخرهم، وذلك يوم الأربعاء منتصف جمادى الآخرة من السنة، وكانت مدة إقامتهم في الحصن ستة عشر يوماً.
ولما رجع الفرنج مقهورين أرسل الأمير الحسن البشري إلى سائر البلاد، وقال الشعراء في هذه الحادثة فأكثروا، تركنا ذلك خوف التطويل.